الانظمة الرمزية و التواصل

02-19-2009, 06:49 PM

عزيز منير

مشرف سابــق وبروفسور الفلسفة

تاريخ التسجيل: Aug 2008

الدولة: تونس

المشاركات: 187

عزيز منير will become famous soon enough

الانظمة الرمزية و التواصل

ما من ثورة تكنولوجية إلا و تحاصرها الكثير من الأصوات المستاءة التي لا ترى في تحققها إلا هدرا للمكتسبات السابقة و تضييعا للقيم. و هذا التصور ليس حكرا على موقف دون آخر إذ يمكن سحبه على الأنظمة الرمزية التي تهدف إلى تحقيق التواصل و التي يزعم البعض أنها تعاني من مفارقة قد أعاقت تحقيق الاكتمال فيها.
ففي الوقت الذي يشهد واقع الاتصال تطورا في تنوع تقنياته تكشف بعض التصورات الفكرية عن وجود أزمة تواصل عمقت من انقطاعه بين الأفراد مما يشرع للبحث في تحديد هذا الانقطاع و رصد مبرراته.
فما هي قيمة التواصل اليوم؟ هل ساعدت تكنولوجيا الاتصال على تحقيقه أم لم تفعل إلا أن أعاقت تجربة التواصل و عمقت عزلة الأفراد؟ و إذا سلمنا بانقطاع التواصل فهل في ذلك علامة على تصدع كل قنوات الاتصال؟ ألا يمكن القول إن ما يبرر أزمة التواصل ليس إدانة أدوات الاتصال و إنما غياب اتيقا للتواصل؟
يعني التواصل الوصل و التفاعل القائم بين اثنين فأكثر بإيجاد علاقة بينهما أساسها الاعتراف البينذاتي بتعبير هابرماس لذلك ارتبط فعل التواصل دائما بشرط التبادل مثلما ارتبط بحضور الآخر . إن التواصل ليس مجرد معطى بديهيا و عفويا خال من كل شروط و إنما على العكس من ذلك تماما بداهته و عفويته من تلازم شروطه التي تؤسس له كتجربة يخوضها الإنسان إذ لا معنى للتواصل خارج علاقة تبادل تتأسس في جانب منها على ما يقع تبادله. و قد لا يتأسس التواصل على محتوى رسالة فحسب بل على سياق يسيره و يشهد بما يكون فيه. مثلما لا وجود للتواصل إلا بالأطراف التي تقيم عملية التواصل و مع ذلك فهو ليس مجرد علاقة بين إنسان و آخر، تتجلى من خلاله إنسانية الإنسان بل هو أيضا تبادل بين المجموعات المختلفة عن طريق أجهزة متفاوتة التعقيد و رغم كل ذلك فإن التواصل لا يختزل في ما هو إنساني فحسب و إنما يمتد إلى أشكال أخرى له مثل التواصل الحيواني.
و نظرا لعدم قدرة الإنسان على العيش وحيدا في هذا العالم كان لزاما عليه أن يشارك الآخر في حاجياته حتى تكتمل مستحقاته كما انه أصبح يبحث عن تواصله مع العالم و ذلك لغاية التعبير عن المشاعر و الأفكار التي تعبر عن علاقته بذاته و بالآخر و بالعالم.
و قد اعتمد الإنسان للوصول إلى الهدف الذي رسمه على مجموعة من الأنظمة الرمزية لعل أبرزها اللغة التي تعتبر من أقدم الوسائط التي أبدعها و أتقنها على مر العصور كما تجمع اللغة في ذاتها ما يجعلها ترتقي إلى مرتبة الإفصاح و البوح إما بالتعبير عما هو مجرد من أفكار و مشاعر و إما بالتعبير عما هو حسي و مادي باعتبار أن اللغة تمنح للأشياء أسماء تدعوها و تدعو من خلالها العالم.فالإنسان يسعى إلى " أن يتكلم العالم" ليقول موجوداته مثلما تتحقق و هي خاصية ملازمة للخطاب العلمي كخطاب وصفي و موضوعي . و لكن في مقابل ذلك " لا يكلم العالم " لأنه يعتبر أن صفة الكلام هو الإنصات و القدرة على تحقيق أفق من الحوار الممكن. و بفعل اللغة لم يعد الإنسان كائنا يستقل بنفسه و إنما أصبح العالم يسكنه كلما ضجت الكلمات داخله. ذلك وحده ما مكن من تحقيق التواصل و مضاعفته لتتحول تجربة الكلمات إلى تجربة تنشئ العالم الحقيقي. و يجب الإقرار إن باللغة تتحول علاقة الأنا بالآخر إلى علاقة اقل تعقيدا في مستوى خوض تجربة نقل الرسائل التي بها يتحقق التفاعل و التفاهم.
إلى جانب اللغة يحتاج الإنسان لتحقيق التواصل إلى المقدس الديني الذي ينبني كسلطة رمزية على ما يحيل إليه من شروط استثنائية للتمثل و يحمل المقدس صفتين مزدوجتين في نفس الوقت فهو مرعب و مثير. و في معجم الأديان يحيل إلى قيمة تتجاوز الإنسان و تحضه على الاحترام و الخوف التبجيلي و المقدس وفق المعنى الذي يعطيه له دور كايهم هو " موضوع احترام و كل شعور احترام يترجم لدى من يستشعره بنواهي".
إذا ما كان كل مقدس ديني حاملا لمعنى فإن لهذه الرسالة دلالة يقع من خلالها إعادة تشكيل العلاقات الإنسانية تنظيما و تأسيسا و ممارسة. لذلك كانت مختلف التعبيرات عن حضور المقدس الديني من طقوس و عبادات و تعاليم تدعو إليها الأديان كأنظمة رمزية هي وسائط حقيقية تبرر طريقة الفعل في الحياة لا وفق ما تمليه الذات على نفسها و إنما وفقا ما تمليه سلطة المقدس على الأفراد. و مثلما لا يكاد يخلو الوجود الانساني من مقدس ديني كذلك لا يمكنه أن يخلو من القيم الدينية خاصة و أن المقدس الديني يرفع بموجبه كل شيء إلى مرتبة القدسية فيعود بها إلى اصل متعال و يعمل على تطهيره من دنسه ذلك وحده ما جعل قرانجي يقر بأن الإنسان " متدين بقدر ما يضع فوق كل شيء قيمة عليا ".
يظهر الرمز داخل المجال الديني من خلال ما يضفيه الدين على القيم الأخلاقية من معاني رمزية تستعيد حضور الإله و فعله المقدس. فأن يأتي الإنسان فعلا ما فليس ذلك إرضاء لنفسه و إنما طلبا للتقرب من الإله حينا و إعلان عن الخضوع للإله المعبود حينا آخر كما يساهم المقدس في توجيه سلوكات الأفراد فيما بينهم و كذلك يقوم بتكريس علاقة الإنسان بالإنسان هذا إلى جانب دوره الكبير في انعكاس علاقة الإنسان بالإله كما يوضح ذلك اريك فروم .
كذلك تعتبر الصورة من أهم الوسائط التي أبدعها الإنسان رغم أن القول بأن ميلادها كان حديثا هو موقف مزعوم لأن الصورة ولدت يوم ولد التخيل و لأن علاقة الصورة قديمة قصرها الإنسان على التمثل الخيالي. قديما كان الإنسان يتخيل الصور دون أن يراها فهو يكتفي بالصورة التي تحيل إليها تخيلاته أما اليوم فالإنسان تبهره الصورة، ليس تلك التي يرغب في رؤيتها و إنما ذلك الزخم من الصور التي يقع تصنيفه ضمن مقاسات إنسانية بقدر حاجات و رغبات الإنسان التي يقع التسلط عليها. و من الثابت أن الصورة قد افتكت لنفسها كل ما يجعلها قادرة لا على التأثير فحسب بل على تأكيد الثقة بها حينا و على الإقناع حينا آخر و على تغيير واقع الإنسان حينا ثالثا فلم يعد الإنسان يرغب أو يريد و إنما أصبحت الصور ترغب و تريد بدلا عنه.
مثلما تحولت الصور إلى حجة إقناع يكون فيها المرئي هو الحقيقي باطلاق و تكون فيها المماثلة مع الصورة جوهر ما يجب القيام به. بهذا المعنى تفتك الصورة لنفسها حق الهجوم و الدفاع و المناورة إلى حد تتحول فيه إلى محفز يروج لثقافة مرئية تدعو إلى المحاكاة و المشابهة و تعمل على استقباح ما هو جميل حينا و على تجميل ماهو جميل حينا ثانيا و على تجميل القبيح حينا ثالثا. و كأنها بذلك تفتك من الإله صفة الخلق.
إذا كانت الوسائط التي أنتجها الإنسان منذ القدم تمثل مصدر سعادته باكتشاف عالم منير يسهل فيه القيام بالتواصل مع الآخر فإنها في الآن نفسه قد مثلت منبع تقهقر قيمه و سببا في تعاسته فكيف تتحول الوسائط التي أبدعها الإنسان من وسائط تحقق التواصل إلى وسائط تنغلق فيها كل قنوات التواصل؟
لقد مثلت الوسائط التي أبدعها الإنسان منذ الأزل و التي كان يسعى من وراءها إلى تحقيق التواصل مصدر تعاسته لاعتبار أن هذه الوسائط في سعيها للتواصل ليست بكل هذه القصدية المثقلة اجتماعيا و اندماجا و إنما تعيش مفارقة حقيقية. فتضخم الازدحام البشري و تنوع الأنظمة الرمزية و تطور وسائل الاتصال لا يعكس أبدا حقيقة التواصل لعله يخبر عن أزمة حقيقية تخبر عن انقطاع التواصل و الزيادة في عزلة الإنسان و اغترابه " لتمثل وسائل الاتصال مصدر انعزال" بتعبير هوركهايمر و ادرنو.
من التناقضات أيضا أن هوة الانقطاع تحتد يوما بعد يوم فاتيقا الحوار انعدمت و تحولت عبقرية اللغة إلى صخب ألفاظ لا ينصت فيه الواحد إلى الآخر فالكل يتكلم و لا احد يقول شيئا. أليس عجيبا أن تستنفذ اللغة مستطاعها و امتلاءها بفراغ ينتهي فيه الجميع إما إلى الصمت و إما إلى الصراع؟
لقد حدثنا الواقع الانساني اليوم عن أعمق تمظهرات الانقطاع تتحول فيه جدلية العلاقة بين الدال و المدلول إلى جدلية جديدة داخل الحياة يذبح فيها الدال مدلوله أو يتآمر عليه ليعزله فما عادت المفاهيم بإمكانها أن تدل على شيء فالحرية حريات هي "حرية الغالب الذي يفرض الاقتداء به فالنفس تعتقد الكمال في من غلبها و انقادت إليه" بتعبير ابن خلدون و من الطرافة أيضا أن توسل الإنسان بالصورة كتتويج لعبقرية رمزية بفعل اتخاذ الصورة المشهدية و المرئية وسيلة حقيقية للبقاء تحولت بموجبه إلى فضيلة ميتافيزيقية و لكن يتغافل أنصار الصور و المنتصرين لها أن الصور " وسيلة بشر لا وسائل لهم" مثلما يوضح ذلك ديبراي .
لقد تحولت الوسائط التي أبدعها الإنسان إلى مصدر قلق باعتبارها قد عمقت عزلة الذات عن الأخر و بفعل هذا التأثير السلبي لها أصبحنا مغتربين في هذا العالم و يعنى ذلك أننا لا نكاد نتعرف على بعضنا و هو ما أدى إلى قطيعة يصعب وصلها كما أننا لا نكلم بعضنا و هو الذي نعرفه و ننتهي إليه. و هو ما خلق صراعات محتدة بين الفرد وشبيهه و بين شعب و آخر و بين حضارة و أخرى. كما يخضع التواصل إلى جملة من المبررات منها سيادة النزعة البرغماتية و النفعية التي كرستها تكنولوجيا الاتصال من ذلك مثلا خضوع التواصل إلى فعل الشحن المادي داخل منظومة الاتصالات الالكترونية و التي تستوجب الاستخلاص المالي و هو ما يؤدي إلى سيطرة نزعة الأنانية حيث كل ينتظر الآخر بأن يبادر بالاتصال به و التواصل معه كما أنها تساهم في تقهقر القيم الأخلاقية و انتشار الإيديولوجيات كما أن هذه الوسائط التي أنتجها الإنسان لغاية اكتشاف عالم مضيء و مشرقا اكتشف أنها قد أصبحت تغالطه و تخفي عنه ما تقول و تموه الحقائق التي تنتجها و تكذب عنه بعنوة .
لقد تجاوز نص الموضوع القناعات البديهية السائدة التي تجعل الوسائط الرمزية تدعي لنفسها الكمال في أداء دورها حيث لم تبلغ بعد مرتبة تحقيق المهمة المنوطة لها. و بذلك اكتسب التواصل قيمة كبرى من خلال تنوع و تعدد الأنظمة الرمزية من ناحية و من خلال سعيها إلى تطوير آليات فعلها من ناحية ثانية. كما أن نص الموضوع قد انفتح على ما هو واقعي بتأكيد واقع التواصل اليوم و الدعوة إلى تفعيل الأنظمة الرمزية بإكسابها النجاعة و ربطها بالبعد الايتيقي و هو ما يمكن من تأكيد تجربة التواصل و الارتفاع بها إلى مرتبة التفاعل و التشارك الحقيقي.
ينبني الموضوع على نوع من المبالغة و المغالطة و تتمثل المبالغة في إيجاد تعثر و عدم إيجاد انقطاع أما بالنسبة للمغالطة فهي تتمثل في تطور وسائل الاتصال و شيوعها بين الجميع و هو ما يؤكد قيمة التواصل و يكذب مزاعم انقطاع التواصل كأزمة يفتعلها نص الموضوع كما أن الموضوع يجرم الأنظمة الرمزية و يحملها مسؤولية انقطاع التواصل في حين أن المسؤولية يتحملها الإنسان الذي انحرف بهذه الوسائط الرمزية.
ما نتخلص إليه إن هاجس تعميق التواصل جعل الإنسان لا يقنع أبدا بما قد تحقق من تطور فاعل ساهم في تقريب الأفراد بعضهم من بعض و جعلهم أكثر انفتاحا و لكن يكفي العودة إلى تاريخ تجربة التواصل حتى يدرك المرء أن ما وقع اكتشافه من أدوات و تقنيات قد مكنت الإنسان من أن يحمل العالم بين يديه و هو الذي كان بالأمس وزرا ثقيلا لا يقوى عليه.

02-19-2009, 06:52 PM

N-Kyo

إدارة نجــــــــــاح نت

تاريخ التسجيل: Feb 2008

الدولة: نجــــــــــــــــاح نت

المشاركات: 2,465

شكرا لك أخي موضوع جميل في إنتضار كل إبداعاتك

__________________

( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل

السماء عليكم مدرَاراً ويمددكم بأموال وبنين

ويجعل لكم جنات ويجعل لكم انهاراً )

-----------------------------------------

( اللهم إن كان لي رزق في السماء فأنزله وإن كان لي رزق في الأرض فأخرجه وإن كان معسراً فيسره وأن كان بعيداً فقربه وإن كان حراماً فطهر)

-----------------------------------------

ماشاء الله لاقوة إلا بالله

02-19-2009, 06:53 PM

Mouchmabir

عضو شرف

تاريخ التسجيل: Mar 2008

الدولة: المغـــــــرب

المشاركات: 1,514

Mouchmabir is a glorious beacon of light

إرسال رسالة عبر مراسل MSN إلى Mouchmabir

إرسال رسالة عبر مراسل Yahoo إلى Mouchmabir

أهلا أخي اشتقنا لمواضيعك أين كنت عللا العموم شكرا على هدا الموضوع الرائع احتراماتي لك أستاد

__________________

http://www.mediafire.com/?bx34b4997eghlfl

02-23-2009, 03:42 PM

N-Kyo

إدارة نجــــــــــاح نت

تاريخ التسجيل: Feb 2008

الدولة: نجــــــــــــــــاح نت

المشاركات: 2,465

شكرا لك أخي موضوع مفيد فعلا

__________________

( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل

السماء عليكم مدرَاراً ويمددكم بأموال وبنين

ويجعل لكم جنات ويجعل لكم انهاراً )

-----------------------------------------

ماشاء الله لاقوة إلا بالله

التعديل الأخير تم بواسطة N-Kyo ; 02-23-2009 الساعة 03:45 PM

المواضيع المتشابهه
الموضوع	كاتب الموضوع	المنتدى	مشاركات	آخر رد
التواصل ملخص	N-Kyo	التربية الإسلامية	5	10-20-2019 06:37 AM
التواصل بين الزوجين	bac2011	منتدى شؤون المرأة	0	01-13-2011 10:37 AM
درس قيم التواصل وضوابطه.	N-Kyo	التربية الإسلامية	3	10-16-2010 04:31 PM
ملخص قيم التواصل و ضوابطه	mr n	التربية الإسلامية	2	05-24-2009 06:42 AM

		نجاح نت > المنتديات التعليمية و التوظيف EMPLOI MAROC > المواد الأدبية > الفلسفة
الانظمة الرمزية و التواصل

اسم العضو		حفظ البيانات؟
كلمة المرور

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة لا تستطيع الرد على المواضيع لا تستطيع إرفاق ملفات لا تستطيع تعديل مشاركاتك BB code is متاحة الابتسامات متاحة كود [IMG] متاحة كود HTML معطلة قوانين المنتدى

تعريف :